غزة- صمود المقاومة يُفشل مخططات ترامب ونتنياهو بعد الهدنة.

كشف الإعلان عن هدنة وقف إطلاق النار في غزة، والتي توسطت فيها مصر وقطر وتركيا، عن حقيقة دامغة: موافقة نتنياهو عليها جاءت كنتيجة حتمية لفشله الذريع في تحقيق الأهداف المعلنة لحربه الشرسة على غزة على مدار خمسة عشر شهرًا. لقد وافق عليها مكرهًا، وتحت ضغط وإلحاح شديدين من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أصرّ بعناد على وقف هذه الحرب الطاحنة قبل أن يغادر منصبه في البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2025.
وقد تجلّى استقبال المقاومة الفلسطينية والشعب الصامد لهذا الاتفاق، منذ اللحظات الأولى لسريانه، في صورة احتفالات عارمة بالهدنة، وببدء المرحلة الأولى من تبادل الأسرى، ممّا رسّخ نصرًا مؤزرًا للمقاومة الباسلة، وللصمود الشعبي الأسطوري، اللذين أدهشا العالم بأسره، وجعلا نتنياهو، بكل ما يمتلكه من غطرسة وصلف وعناد، يتميّز غيظًا وحنقًا، ويكاد يختنق من فرط الغيظ.
ومما لا شك فيه، أن ترامب، الذي ألحّ بإصرار بالغ على فرض رغبته في وقف إطلاق النار، لم يرق له ما شاهده من مظاهر المقاومة المنتصرة، والشعب الفلسطيني الذي حقق النصر، عقب توقيع الاتفاق وانتهاء المرحلة الأولى منه، فأخرج فجأة من جعبته مشروعًا خبيثًا، كان قد أعدّه سرًا، لتهجير قسري للفلسطينيين من قطاع غزة، وتوزيعهم على كل من مصر والأردن ودول أخرى، مع استيلاء أميركا على أرض القطاع المحاصر، وذلك لتحويله إلى منتجع سياحي فاخر، أو ما أسماه "ريفيرا لشرق أوسط توّهمي"، وسارع إلى دعوة نتنياهو إلى البيت الأبيض، في محاولة يائسة للتخفيف من أزمته النفسية المتفاقمة، وتشجيعه على مواصلة عدوانه العسكري الذي يتوق إليه بشدة.
وهذا الأمر يفسّر بوضوح الخروقات المتكررة التي ارتكبها الجيش الصهيوني الغاشم أثناء تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، ولا سيما تلك المتعلقة بتنفيذ البنود الخاصة بالبروتوكول الإنساني الذي تضمنه الاتفاق، والتي تشمل دخول قوافل المساعدات الغذائية والطبية والإنسانية، وتوزيع الخيام والكرفانات على مئات الآلاف من النازحين الذين يبيتون في العراء، أو في خيام مهترئة تتقاذفها الرياح العاتية، وتزيد من معاناتهم الأحوال الجوية السيئة. هذا بالإضافة إلى النقص الحاد في المواد الغذائية والمياه النظيفة والأدوية اللازمة.
هذا الوضع المتردي دفع قيادة المقاومة الفلسطينية الباسلة في قطاع غزة إلى التلويح بتأجيل عملية تبادل الأسرى التي كان من المقرر استئنافها يوم السبت 15 فبراير/شباط 2025، وذلك بهدف وضع حدٍ لهذه الخروقات السافرة، وتحميل نتنياهو المسؤولية الكاملة عن أي فشل قد يطرأ على المرحلة الثانية من الاتفاق.
لقد استغل نتنياهو زيارته للبيت الأبيض، والمطالبة الصريحة من ترامب بتهجير الفلسطينيين من القطاع، ليكتسب قوة دافعة لعرقلة مسار الاتفاق، بل والعودة إلى شن الحرب مرة أخرى إذا أمكن، وهذان هما بالفعل الأمران اللذان يسعى إليهما نتنياهو بكل ما أوتي من قوة، بعد أن وقّع على اتفاق وقف إطلاق النار مُرغمًا ومقهورًا.
وفي الوقت نفسه، صعّد ترامب لهجته العدائية ضد حركة حماس في غزة، مطالبًا بتسليم جميع الأسرى المتبقين بحلول الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم السبت 15 فبراير/شباط 2025، وإلا فإنه سيفتح أبواب الجحيم على حماس في قطاع غزة.
وقد توهم ترامب наивно أن قيادة المقاومة الفلسطينية والشعب الصامد سيرتجفون خوفًا ورعبًا، وسيلبون طلبه على الفور. ولكن هذا الوهم سرعان ما تبدّد وتلاشى، أمام ثبات موقف المقاومة الذي لا يلين، وتحرك الراعيان: المصري والقطري، للوساطة من جديد، بهدف إنقاذ الموقف المتأزم، والعودة إلى طاولة المفاوضات لاستكمال المرحلة الثانية من الاتفاق.
وهنا يجب التوقف مليًا عند التأزّم الشديد الذي طفا على سطح الأحداث، نتيجة للموقف الحازم الذي اتخذته كل من مصر والأردن، برفضهما القاطع لمشروع ترامب الخبيث بتهجير الفلسطينيين من غزة. وسارعت المملكة العربية السعودية للانضمام إلى هذا الرفض، وأكدت على ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، كشرط أساسي لأي مسار للتطبيع.
ثم تبلور توافق عربي واسع النطاق، تمثل في الدعوة إلى عقد قمة عربية طارئة، ترفض مشروع التهجير رفضًا باتًا لا رجعة فيه، وتضع خطة عربية شاملة لإعادة إعمار غزة. هذا يعني أن ترامب واجه تحديين كبيرين: الأول، أن يسحب عمليًا تهديده بفتح أبواب جهنم، والثاني، أن يوافق على أن يلبّي نتنياهو عددًا من المطالب المتعلقة بتنفيذ البروتوكول الإنساني، مقابل الإفراج عن ثلاثة أسرى، يوم السبت المذكور، وأن يتقبل على مضض عقد قمة عربية، قلبت الطاولة على مشروعه الخبيث للتهجير.
لا شك أن تاريخ السبت 15 فبراير/شباط 2025، سيكون تاريخًا حاسمًا بالنسبة إلى إنهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، والتمهيد لبدء مفاوضات المرحلة الثانية. وهو السيناريو الأرجح، مقابل عدم تنفيذ التهديد بشن حرب جديدة، كما يلوّح نتنياهو، أو فتح أبواب جهنم، كما يتوعّد ترامب.
وهنا تبرز أهمية الضغوط الهائلة التي مورست من قِبَل راعيَي اتفاق وقف إطلاق النار: مصر وقطر، بهدف إنقاذ الموقف وإيجاد مخرج للأزمة التي نشأت يوم السبت. وهنا أيضًا تظهر أهمية الضغوط العربية لعقد القمة العربية المصغرة، فالكبرى، وربما عقد قمة إسلامية أيضًا، وذلك لتلعب دورها الفاعل والضاغط على مرور يوم السبت 15 فبراير/شباط 2025 في "سلام".
باختصار، إن تراجع ترامب عن وعيده المشؤوم، بفتح أبواب جهنم، ليس بالأمر الهين أو المضمون، وذلك أمام الموقف الشجاع والصحيح الذي اتخذته قيادة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بتحدّيه، وفي معالجة الأزمة بحكمة وروية. فقرار تراجع ترامب، سيشكل ضربة قوية موجعة، يصعب عليه احتمالها أو استيعابها.
الأمر الذي يجعل ترجيح مرور يوم السبت 15 فبراير/شباط 2025 في "سلام" مؤشرًا مهمًا أيضًا للمرحلة الجديدة التي دخلها الوضع العالمي، سواء من ناحية اتفاقيتي وقف إطلاق النار في لبنان وغزة، أم من ناحية التزام ترامب بما أعلنه من تغيير للوضع في العالم، وخصوصًا في منطقتنا العربية- الإسلامية (إيران وتركيا)، هذا بالإضافة إلى مشروعه الشيطاني لتهجير فلسطينيي غزة.
ويبقى السؤال المطروح بقوة: أيّة أبواب جحيم يتوعّد ترامب بفتحها، ضدّ المقاومة الباسلة والشعب الصامد في غزة؟ وهما اللذان خرجا للتوّ من حرب إبادة جماعية بشعة، قدما فيها تضحيات جسيمة، تمثلت في أكثر من ستين ألف شهيد، ومائة وعشرين ألف جريح، ومن حرب تدمير شامل لم تبقِ في غزة بيتًا واحدًا، لم يُسوَّ بالأرض، أو لم يتصدّع تصدعًا بالغًا بما لا يصلحه الترميم، وعطلت بشكل كامل كل المشافي والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس. فضلًا عن 471 يومًا من عقاب الجوع والعطش والحرمان من الغطاء والدواء، ضُرب على مليونين ونصف المليون من الغزيين.
ومع ذلك، تجلّى الصمود الأسطوري، والبطولات الخالدة، إلى جانب الخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الصهيوني الغازي، من خسائر هائلة في صفوف الضباط والجنود والآليات، تراوحت ما بين قتلى وجرحى، ومعطوبين جسديًا ونفسيًا وعقليًا.
إذا كان دونالد ترامب يتوعد بفتح أبواب لجهنم، غير هذه الأبواب التي ذكرناها، فلم يبقَ في جعبته، غير الأسلحة النووية المحرمة دوليًا، وكل ما يمثل تحريمًا دوليًا شاملًا، ممّا يجعل وصوله إلى استخدام أيّ من هذه الأسلحة المحرمة، نهاية مأساوية لحياته السياسية المهتزة، وتدميرًا شاملاً ونهائيًا لسمعة الكيان الصهيوني المغتصب، والحضارة الأميركية- الأوروبية الزائفة، حيث لا انتصار عسكري متصور عندئذ، بالمعنى العسكري البحت، بل هزيمة عسكرية وأخلاقية وإنسانية مدوية.